تشارلز جوديير- رجل المطاط
قام تشارلز ماري لاكوندامين المستكشف الفرنسي الشاب والعالم الهادي برحلة استكشافية إلى إحدى غابات أمريكا الجنوبية عام 1736 . وأراد حماية جهاز المساحة من الرطوبة الاستوائية . ولاحظ أن الهنود الحمر يضعون أغطية مضادة للماء من العصارة المخمرة المستخلصة من نوع الأشجار المنتشرة بالمنطقة , فصنع حافظة لجهازه من المادة نفسها وهي التي نعرفها الآن باسم المطاط . ولم يكن كوندامين المغامر الأول الذي عثر على تلك المادة , فقد أبلغ عدة مستكشفين , أولهم كريستوفر كولومبس , عن وجود تلك المادة المرنة العجيبة . وقد وصف أتباع بيزارو في بيرو واتباع كورتيز في المكسيك طريقة استعمال هذه المادة بالتفصيل .
ولقد كان سكان المكسيك القديم يصنعون كرات اللعب من هذه المادة , كما صنعوا منها الأوعية والبنادق , وأحذية اللعب , وغلفوا بها صفائح من المعادن . ولكن كوندامين كان أول كاتب ومتكلم لبق يحدث قارة أوروبا عن فوائد المطاط “الكاوتشوك” كما كان يسمى وقتئذ . إذ كتب عنه بكتبه الواسعة الانتشار وتباحث في أمره في صالونات باريس حيث كان يقابل بالترحيب كالأبطال , كما أنه أحضر عينات من هذه المادة الأسفنجية العطرية . وما لبث أن أكتشف أحد الأشخاص أن القطعة من تلك المادة يكنها محو الكتابة بالقلم الرصاص , وبدأ الناس في تسميتها بالمطاط . ضل المطاط لعشرات السنين مجرد ممحاة ومادة للتسلية , ولم يكن هناك من شئ يثبت ويمتد مثله , وكان الهنود الحمر بالبرازيل يصنعون بين الحين والآخر- آنية من المطاط وبعض الآلات الأخرى ’ ويحضرونها الى الأقطار الشمالية بالقارة الأمريكية . ولقد كان فريدريك الأكبر, أول من نشر زراعة البطاطس – وهي اكتشاف برازيلي آخر – زوج من أحذية ركوب الخيل مغطى بطبقة من محلول الكاوتشوك.
وفي عام 1820م . ورد الى الولايات المتحدة من البرازيل أول زوج من الأحذية المصنوعة من المطاط , ولقد كان هذا الحذاء مدبب الطرف وموشى بالذهب . ثم تبعته آلاف أخرى بيعت بسرعة . أما في انجلترا فقد صنع الكيميائي تشارلز ماكينتوش محلولا من المطاط الخام والنفط طلي به قطعه من القماش وصنع منها معطفا للمطر . ولا يزال هذا النوع من المعاطف يحمل أسم ماكنتوش حتى الآن .
ثم جاء عصر المطاط الذهبي , فتدفقت ملايين الجنيهات من أصحاب رءوس الأموال على شركات التصنيع وتلهف الناس على شراء الأحذية والقبعات والمعاطف والأغطية وأحزمة النجاة المصنوعة من المطاط بأسعار باهظة , وركب الرئيس اندروجا كسون جواده في شوارع بوسطن تحت المطر , مرتديا حلة من المطاط , بينما كانت الآلاف تحييه . ثم انفجرت فقاعة المطاط , وأغلقت المصانع ,وفقد بعض المستثمرون أموالهم , وفاضت مستودعات القمامة في المدينة بمعاطف المطر المنبوذة .
لقد كان سبب الإتهيار بسيطا , في الشتاء كانت الملابس المطاطية صلبة كالألواح ألواح الخشب , وفي فصل الصيف الحار كان المطاط يتحلل الى خليط لزج كريه الرائحة , وأصبحت عبارة مشروع المطاط في الحديث العام مرادفة لعرض أسهم كاسدة للبيع . كانت هذه هي الحال بالنسبة لفن صناعة المطاط في عام 1834م . حينما وقع تشارلز جوديير الذي كان يعيش في نوجاتوك بولاية كونكيتكت أسيرا لطموحه المهلك . وكان العلماء النابهون يعلمون أن المطاط يكون مادة رائعة لو أمكن تثبيتها . كما جرب الكيميائيون وصانعو الأواني . في بلاد عديدة . ولكن جوديير نجح حيث اخفق الآخرون , بعد أن دفع نفسه ثمنا مهولا فلقد كانت مثابرته العنيدة تفوق كل تصور . وجعلت منه المصائب ‘بنا مفضلا لها . لو قيست طريقة معالجة جوديير للمطاط بمدى تأثيرها في حياة الإنسان لوجب أن توضع طريقة في مصاف أعظم الاختراعات . فقد قدر لها أن تقيم صناعة قيمتها بليون دولار , وتبدأ عصر المحركات , وتغير من شكل التكنولوجيا في العالم . بل يمكننا أ نسمي جوود يير المكتشف الحقيقي للمطاط .
ولد تشارلز جود يير في عام 1800م . لأسرة عريقة ذات ثراء في كونكتيكت واشتهر إسلافها بين المستوطنين القدامى في نيوهافن . وكان أبوه ” أمازا ” رائدا في أختراع وصناعة الأدوات المعدنية , وأدوات الزراعة وكان ينتج مصنعه الملاعق ومناجل الحصاد والساعات ترك الصبي المدرسة في السابعة عشره من عمره , وقضى مدة تدريبه في شركة الاستيراد الأدوات المعدنية بفيلادلفيا , حتى بلغ سن الرشد , وعندما تم تدريبه عاد لأبيه وأصبح اسم الشركة ” شركة جوديير وولده” .
كان جوديير محدثا لبقا يتسم حديثه بالإخلاص والتفاؤل . فجعل منه ذلك نجما لامعا في عالم التجارة . وأصبح للشركة رصيد مصرفي لا بأس به , ولاقى الشريك الصغير وهو لايزال في بداية عقدة الثالث من عمره تقديرا عظيما بين رحال الأعمال . في سن الخامسة والثلاثين قبل أن يفكر جوود يير في المطاط بصورة جدية بعد أن كان تعب من المنافسة بالعمل , أخذ يبحث عن فكرة أو اختراع جديد . وعندما كان مارا أمام مخزن شركة “كسبري للمطاط ” بنيويورك وقف ليتأمل أحد أطواق النجاة , ولم يكن من محبي البحار , إلا أنه كان ذا اهتمام غريب بأطواق النجاة , فضايقه المنظر السخيف الذي كان علية صمام الهواء فعاد الى منزله وصمم صمام آخر أحسن منه . وأقر مدير الشركة أن جوديير صنع صماما أفضل .
حصل جوديير على كمية من محلول المطاط , وذهب الى منزله ليقوم بتجاربه في مطبخ زوجته , مسلحا بثقة فائقة وجهل تام بالمهمة التي هو مقبل عليها . وكانت زوجته تتضايق من روائح المطاط الكريهة وبقايا الصمغ الملتصقة بالأرض . وأضاف عددا من المواد الأخرى الى محلول المطاط محاولا التخلص من عيوبه , ولقد صادف بعض النجاح في عمل عينات صغيرة من الرقائق الرفيعة , فعلت روحه المعنوية وأعلن في سرور أنه توصل الى حل المشكلة وأنه على استعداد ليبدأ التنفيذ .
لقيت هذه النتيجة صدى في نفس صديق له من نيوهافن , فقدم اليه بعض المال كرأس مال صغير , وبدا جوديير العمل فعكف هو وزوجته وابنتاه وبعض العمال الأجراء على عمل رقائق من المطاط على لوحة رخامية ثم الصق الرقائق على قطع من القماش . وصنعوا في ذلك الشتاء مئات الأزواج من الأحذية المطاطية البدائية , ووضعوها بمخزن حتى يتبينوا ماذا يفعل بها الصيف , ولم تكن أجهزة ضبط الحرارة لإ جراء الاختبارات موجودة في تلك الأيام , فكان على جود يير أن ينتظر طوال فصل الشتاء ليعرف النتيجة .
في إحدى ليالي شهر يناير 1839م. توصل جوديير الى اكتشافه العظيم . شرع يجري التجارب لاختبار تأثير الحرارة الهادئة على حقيبة البريد المصنوعة من المطاط المحتوي على بعض الكبريت مستخدما موقدا خشبيا . وفي غمرة الحديث مع رجلين آخرين من رجال المطاط لوح بشريط من المطاط كان ممسكا به , فلمس الشريط الموقد الساخن , وهنا سكت جوديير فجأة وحملق في الشريط , فقد كان المطاط ينصهر دائما إذا ازدادت سخونته , ولكن حدث غير ذلك في هذه الحالة , إذ تفحم الجزء من الشريط الذي لامس الموقد كما يحدث للجليد . هكذا أكتشف أخيرا السر الحقيقي للفلكنة ” الفلكنة هي أن المطاط المعالج بالكبريت يصبح يابسا ثابتا ذا قدرة على الاحتمال إذا ما تعرض لدرجة حرارة عالية ” والفلكنة كلمة مستمدة من أسم إله النار الروماني . ويقول الكيميائيون المحدثين أن المطاط الخام يتكون من سلاسل جزئية طويلة من ذرات الكربون لا يتشابك بعضها ببعض تشابكا عرضيا , وفي هذه الحالة تكون المادة لدنة , يمكن تشكيلها أو صبها على أي شكل ولكنها لن تبقى على هذا الشكل بدون معالجه كيميائية أخرى .
لقد كان مطاط جوديير يستخرج من عصارة الأشجار , واليوم تنتج المصانع الكيميائية الضخمة المطاط من البترول والكحول وأشياء أخرى كثيرة , والمطاط الجديد مثله مثل القديم في أنه غير قابل للاستخدام إلا إذا عولج بعملية جوديير للفلكنة .
المراجع : – مؤلفات هارلاند منشستر
أستخراج المطاط الطبيعي : فيديو ..▼